مقالات

  د. طارق عشيري يكتب الفهم العميق للعلاقات السودانية المصرية 

متابعات -مرآة السودان د. طارق عشيري يكتب الفهم العميق للعلاقات السودانية المصرية 

د. طارق عشيري يكتب الفهم العميق للعلاقات السودانية المصرية 

همسه وطنيه

دكتور طارق عشيري

 

الفهم العميق للعلاقات السودانية

المصرية

تُعد العلاقات السودانية المصرية من أكثر العلاقات تعقيدًا وتشابكًا في المنطقة، ليس لأنها تقوم على معادلات سياسية عابرة، وإنما لأنها ترتكز على إرث تاريخي طويل وروابط جغرافية وثقافية تجعلها أشبه بـ”علاقة قدر” بين شعبين وجارين.

تفرض الجغرافيا نفسها بقوة على العلاقة بين البلدين؛ فحدودهما البرية الممتدة، ونهر النيل الذي يعبر أراضيهما ليمنحهما الحياة، يجعلان من الاستقرار في إحداهما شرطًا أساسيًا لطمأنينة الأخرى. فالنيل ليس مجرد نهر، بل شريان وجود يربط الخرطوم بالقاهرة، ويربط مصير الشعبين بخيط ماء واحد.

منذ آلاف السنين ظل السودان ومصر وحدة حضارية متداخلة، من عهد الفراعنة إلى الممالك النوبية، ثم فترات الحكم التركي المصري، وصولًا إلى لحظات التعاون والوحدة في العصر الحديث. وعلى الرغم من تعاقب الخلافات، لم ينقطع هذا الخيط التاريخي الذي يذكّر دائمًا بأن ما يجمع الشعبين أعمق من أي خلاف سياسي.

تنظر مصر إلى السودان باعتباره عمقًا استراتيجيًا لأمنها القومي، بينما يرى السودان في مصر جارًا قويًا لا يمكن تجاهله في معادلات الإقليم. هذا الإدراك المتبادل جعل العلاقة تتأرجح بين التعاون في أوقات، والتوجس في أوقات أخرى، خصوصًا عند بروز قضايا حساسة مثل حلايب وشلاتين أو سد النهضة.

رغم تعقيدات السياسة، ظل الشعبان يتواصلان بلا انقطاع. التعليم، والفن، والهجرة، والعلاقات الأسرية نسجت خيوطًا يصعب تفكيكها. فالسوداني في القاهرة يشعر وكأنه في وطنه الثاني، والمصري في الخرطوم يجد نفس الدفء الاجتماعي. هذه الروابط الشعبية تظل دائمًا أقوى من تقلبات المواقف الرسمية.

يملك السودان ثروات زراعية هائلة تؤهله لأن يكون سلة غذاء للمنطقة، بينما تمتلك مصر خبرة صناعية وبنية تحتية يمكن أن تفيد السودان. التعاون الاقتصادي إذن ليس رفاهية، بل ضرورة تفرضها احتياجات الشعبين، خاصة في ظل الأزمات الراهنة.

اليوم، ومع ما يشهده السودان من حرب داخلية وظروف صعبة، تجد مصر نفسها لاعبًا محوريًا في الملف السوداني، بحكم القرب الجغرافي والتأثير المباشر. غير أن مستقبل العلاقة يتوقف على مدى احترام الندية والسيادة، وتجاوز عقلية الاستغلال إلى عقلية الشراكة.

الفهم العميق للعلاقات السودانية المصرية يكشف أنها ليست علاقة عابرة يمكن الفكاك منها، بل هي حتمية تاريخية وجغرافية. والتحدي الأكبر يكمن في تحويل هذه الحتمية من مصدر توتر إلى مصدر قوة، بحيث تصبح العلاقة نموذجًا للتكامل والاستقرار، لا ساحة للصراع والخلاف.

رغم تعقيدات التاريخ وتشابك المصالح بين السودان ومصر، فإن الفهم العميق للعلاقات بين البلدين يفرض علينا تجاوز سطحية الشعارات والتقاطعات السياسية الضيقة، والولوج إلى جوهر الروابط التي تجمع الشعبين عبر النيل والمصير المشترك. فالمستقبل لا يُبنى على الماضي وحده، بل على رؤية واعية تدرك أن الأمن القومي والاقتصادي والاجتماعي للبلدين مترابط إلى حد يصعب فصله. ومن هنا، فإن استثمار هذه العلاقة على أسس من الندية والاحترام المتبادل والتكامل الحقيقي، هو الطريق الأوحد لتحويل التحديات إلى فرص، وبناء شراكة راسخة قادرة على الصمود أمام تقلبات السياسة والإقليم، لتظل العلاقة السودانية المصرية ركيزة للاستقرار في وادي النيل ومنارة للتعاون في محيطها العربي والأفريقي.

الفهم الاستراتيجي للعلاقات السودانية المصرية يقوم على قاعدة أن كل طرف يمثل امتداداً للآخر: أمنياً، مائياً، اقتصادياً، وسياسياً. وبالتالي، فإن بناء شراكة ندّية تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة هو الطريق الوحيد لتجاوز التوترات وتحويل العلاقة من كونها رهينة الأزمات إلى كونها قوة إقليمية مشتركة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى