عوض الكريم فضل المولى وحسن عبد الرضي أنماط طرائق التفكير السوداني: وعي مأزوم أم ثقافة مغلقة دعوة للمراجعة الجماعية
متابعات-مرآة السودان

هل أصبح سلوكنا الجمعي انعكاسًا لتناقضاتٍ تربّت فينا حتى استقرّت قواعدُ موروثة ومقدسة؟
في واقعنا السوداني، كثيرًا ما نُخضع مظاهر التقدم الإنساني — كالمحبة، والتسامح، والصدق — لمقاييس مشوّهة تُجرِّم الضعف وتُمجّد القسوة، كما في موروثنا الثقافي تمجيد “الهمباتة” والغناء لمن يقتل أكثر أو يقطع الطريق.
فالرجل الذي يُخفي مودة زوجته أمام أطفالها وأهله أو المجتمع المحلي كي لا يُتَّهم بالهوان والضعف وعدم الرجولة (الأُضَيْنة)، لا يجد بأسًا في إهانتها علنًا، لأنه تشرّب أن الرجولة سلطة وغلظة، لا مرونة وحنان وإحساس إنساني.
وفي المقابل، تَخشى المرأة أن تُشرك زوجها في همٍّ يخصّ أهلها، لأنها تعرف، بتجربةٍ متوارثة، أن الخلاف الزوجي يحوّل الأسرار إلى ذخيرة في معركة كسر الإرادة.
أليست هذه صورة مرعبة لعلاقاتٍ قامت أصلاً على المودّة والرحمة؟
نحن مجتمع يضع عواطفه في قبو نفسه ويدغدغ بها مشاعره، ويعلّق فوق رأسه شعارات خشنة، تُشيد بالخداع، وتُحتقَر الأمانة، وتمنح الوقاحة وسام الذكاء.
وفي الوقت ذاته، تُهان الثقافة وتُقزَّم مكانة الفكر عندما يُوصَف المثقف وسط مجتمعه بـ”المتفلسف” أو الثرثار (القِندِف)، وأحيانًا يُكرم الرجل لهندامه دون فهمه (كُل يا كَمي قبل فمي).
تُعرَض الكتب في الشارع على أرصفة الغبار، بينما تُدلّل الأحذية في محلاتٍ مكيّفة. فأي نظامٍ قِيَميّ هذا الذي يرفع قيمة النعل فوق العقل؟
تُمجَّد النكتة التي تهزأ بحالنا وثقافتنا (مجتمع يضحك من نفسه)، ولا يكترث لحضارتنا وتاريخنا البِجراوي وما قبل التاريخ.
وإذا كان الخطاب الديني الهزلي (شيخ “تف” — استهزاء الجماعات السلفية بالطرق الصوفية) أحد منابع التفكير الشعبي، فكم هي مريرة هذه المفارقة:
الرجل يحفظ عن ظهر قلب ما يؤكد سلطته على المرأة، في جهلٍ بأسرار المقاصد الشرعية وإنسانيتها، لكنه ينسى أو يُقصِي، بقصد أو غير قصد، ما يدعوه إلى الرحمة بها، والرفق بها، وحسن العِشرة.
فهل نحن أمام انتقائية انتهازية في التدين؟ أم خلل في التربية الدينية والاجتماعية؟
ثم، كيف تحوّلت بعض العادات إلى نصوص مقدسة لا تقبل الجدل، ويُخاصم ويُقاتَل من أجلها وتُقطَع الأوصال، بينما صارت القيم العليا — كالعدل، والحرية، والإبداع — تُهمة؟
كيف نُصدّق أن الحب “حرام”، بينما الشتائم والغلظة هي “رجولة”؟
كيف نعتبر الموهبة تهديدًا، والواثق بنفسه “متكبرًا”، والمجتهد “متصنّعًا”؟
وفي مجتمع تُلاحَق فيه السلطات بسطات الورد، ويُسحَق فيه باعة الجمال من الفنانين الرسّامين والمسرحيين، ويُهمل فيه المفكرون والمعلّمون والمبدعون، بينما يُحتفى بباعة الأوطان، والمحاصصة، والامتيازات، والمسكوت عنه علنًا…
علينا أن نسأل بصدق:
من يُهدّد هذا البلد فعلاً؟
الذين يزرعون الجمال؟ أم الذين يعتاشون من دمائه؟
هذا المقال لا يدين المجتمع، بل يضع مرآة أمامه.
فلعلّنا نجرؤ، ذات يوم، على طرح الأسئلة الصعبة، ومغادرة سجون العادات، والانتصار لما تبقّى فينا من فكر حر، إنساني.