مهدي داؤد الخليفة يكتب: رؤية تحليلية لجذور أزمة الوطنبين أوهام الهوية وخراب الدولة : حينما خانت النخب قضايا الشعب الأساسية
متابعات-مرآة السودان

بين أوهام الهوية وخراب الدولة : حينما خانت النخب قضايا الشعب الأساسية
في بلدٍ ينزف على كل الجبهات، لم تكن الحربُ وحدها هي الخطيئة الكبرى التي أوصلتنا إلى حافة الهاوية، بل شاركتها في ذلك خطايا فكرية وثقافية وسياسية كرّستها نخبنا المثقفة وأحزابنا السياسية على مدار العقود. لقد استُهلكت طاقات السودان الفكرية في جدلٍ عقيم لا يُفضي إلى بناء ولا يُقدّم حلولًا حقيقية لقضايا المواطن: جدل الهوية، وشكل الدولة، وعلاقة الدين بالدولة، والدستور الدائم، والصراع الأيديولوجي بين العلمانية والإسلام السياسي . هذه القضايا التي قد تكون جديرة بالنقاش في دول مستقرة، تحوّلت في السودان إلى ملهاة سياسية صرفت الأنظار عن أساسيات الحياة من تعليم وصحة وغذاء وأمن .
لقد أصبح انشغال النخبة المثقفة –عن قصد أو بغيره– تعبيرًا عن عجزها عن فهم أولويات الشعب، أو ترفًا فكريًا لا علاقة له بواقع السوداني المهدد بالجوع والنزوح والموت . وفي حين كان المواطنون يغرقون في طوابير الخبز ويموتون في أروقة المستشفيات المهترئة، ظلّت منصات الحوار الوطني والندوات السياسية تتحوّل إلى ساحات تنظير حول “الإطار الدستوري”، و”مشروع الدولة المدنية”، و”علمانية السودان” و”أزمة الهوية”، بينما ظلّت هذه الملفات مفتوحة، بلا حسم، منذ ستينيات القرن الماضي .
من المؤسف أن تصرّ بعض القوى السياسية وبعض الحركات المسلحة على التمسك بقضية “علمانية الدولة ”كبند أساسي سابق لأي تسوية سياسية ، حتى في ظرفٍ فقدت فيه الدولة السودانية وظيفتها الأساسية كضامن للأمن، ومقدم للخدمات، وحامي للحياة . وبالمثل، تمسّكت بعض التيارات الإسلاموية بإعادة إنتاج نسخة الشريعة كشرطٍ للشرعية السياسية، في تجاهل تام لحجم الدمار الوطني .
وكأننا أمام مقايضة مستحيلة: إما قبول العلمانية، أو أسلمة الدولة، او استمرار انهيار و تلاشي الدولة . وهنا تتجلّى أزمة النخبة في أوضح صورها: تقديم الأيديولوجيا على الإنسان، والرمز على الواقع، والصراع على الحل .
هذا الإصرار المسبق على صيغة حكم دون سياق شعبي جامع، ودون أرضية سلمية حقيقية، يجعل من “علمانية او إسلامية الدولة” عبئًا سياسيًا يزيد من تعقيد الأزمة، خاصة أن المطلب يتم في بلد يواجه أكبر أزمة إنسانية في العالم.
لقد اندلعت الحرب الأخيرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فجاءت كمرآة سوداء كشفت الانهيار الأخلاقي الكامل لمجمل الطبقة السياسية، بما فيها المثقفون الذين صمتوا، أو تواطؤوا، أو انشغلوا بترف التنظير . فبدلًا من أن تكون الطبقة المثقفة صوتًا للسلام، وضمانة للعدالة، انقسمت بدورها بين جبهات الحرب، وراحت تبرر الانتهاكات وتتنكر لأبسط حقوق المواطنين في الحياة والكرامة.
الثورة المجيدة في ديسمبر 2018، التي أخرجت أجمل ما في الإنسان السوداني من سلمية وشجاعة، لم تصمد طويلًا أمام مطامع النخب . فانقسمت القوى الثورية، وتسابق المثقفون على الكراسي، وتحوّل المنظرون إلى ممارسين للسلطة دون مشروع، فتعثرت المرحلة الانتقالية، وتآكلت الثقة، وضاعت الفرصة التاريخية للانتقال الحقيقي .
إن ما يُسمى بـ”أزمة الهوية”، وإن كان موضوعًا مهمًا في ظروف استقرار، فقد تحوّل في السياق السوداني إلى واجهة صراع سلطوي بين العلمانيين والإسلاميين، استخدمها الطرفان لتبرير الفشل، وتعطيل أي تقدم ممكن . فالدولة انهارت، والمواطن ضاع، بينما ظلّ الجدل محتدمًا حول “علمانية الدولة” أو “أسلمتها” في وقتٍ لم تعد فيه الدولة قادرة على تقديم الخبز او الصحة أو تأمين المدارس .
لم يعد الحديث عن “هوية السودان” مجديًا في وطن لم يبقَ فيه ما يدل على الدولة . لقد كشفت هذه الحرب، وما سبقها من أزمات، خواء المشروع الثقافي للنخبة السودانية، وانفصاله التام عن واقع الناس . لم يعد الحديث عن شكل الدولة مجديا إذا لم نعد بناء الإنسان السوداني ونمنحه الحق في الحياة والكرامة والخبز والتعليم . إن أرقام الجوع واللجوء والنزوح والموت ليست مجرد إحصاءات، بل هي صفعة أخلاقية لكل من استبدل قضايا الحياة الكريمة بمجادلات لا تنتهي.
إن الطبقة المثقفة السودانية، التي كانت يجب أن تكون صوتًا للضمير الوطني، أصبحت للأسف جزءًا من أزمة البلاد، بل أحد أسباب فشل المرحلة الانتقالية التي تلت ثورة ديسمبر المجيدة .
المرحلة القادمة، ونسأل الله ان يحفظ الدولة السودانية موحدة متماسكة، يجب ان لا تكون لحاملي الكتب وحدهم، بل لحاملي الضمائر . إنها معركة بقاء، لا تُخاض بالمؤتمرات والبيانات، بل بخطط واقعية وشجاعة أخلاقية تنحاز لأبسط حقوق الإنسان السوداني: في الأمان، والغذاء، والدواء، والتعليم .
فهل نبدأ من هنا … قبل أن تُغلق نوافذ الأمل إلى الأبد