د.حسين العالم يكتب الإعمار وإعادة الإعمار: بين بناء النفوس وتشييد العمران

د.حسين العالم يكتب الإعمار وإعادة الإعمار: بين بناء النفوس وتشييد العمران
أولاً: مفهوم الإعمار
يرتبط مفهوم الإعمار في اللغة بالفعل “عَمَرَ”، ويُقصد به إشاعة الحياة والحيوية في الشيء؛ فنقول: “عَمَر الأرض” أي أحياها، و”عَمَر الدار” أي بناها. وغالباً ما يرتبط مفهوم الإعمار في أذهان الناس بالبناء المادي كالعمران والبنية التحتية. غير أن القرآن الكريم قد وسّع دلالة هذا المفهوم وربطه بالإيمان، كما في قوله تعالى:
“إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ” [التوبة: 18].
فالإعمار في المنظور الإسلامي لا يتحقق إلا من خلال الإيمان الصادق والعمل الصالح، لذلك فإن الإعمار الحقيقي يبدأ من الداخل، من إصلاح النفوس وصياغة الوعي.
ثانياً: إعمار النفوس
إعمار النفوس هو الأساس الذي ينبغي أن تنطلق منه كل محاولات البناء والتنمية. فبناء الإنسان لا يقل أهمية عن بناء العمران، بل يسبقه. ويشمل هذا الإعمار تزكية النفس، وإشاعة القيم الفاضلة، واستحضار معية الله في السر والعلن، كما جاء في قوله تعالى:
“يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ” [هود: 5].
وفي سياق الواقع السوداني، يعاني المجتمع من أمراض اجتماعية متجذرة مثل الحسد، الأنانية، الجهل، العنصرية، ورفض الرأي الآخر. لذلك فإن الأولوية ينبغي أن تُمنح لإعمار النفوس وتحرير العقول من القيود الفكرية والسلوكية التي تعيق التغيير.
ولتحقيق هذا الإعمار، ينبغي التركيز على:
1. الدين: كمرجع أعلى يغذي القلوب بالإيمان والطمأنينة ويقود إلى إصلاح الفرد والمجتمع.
2. الأخلاق: كأساس للتعاملات الإنسانية، فهي التي تغرس قيم الرحمة، العدل، التعاون، والصدق.
3. تزكية النفس: وهي من مقاصد الرسالة السماوية، قال تعالى:
“قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ۞ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا” [الشمس: 9-10].
ثالثاً: بناء الفكر
لا يمكن أن يتحقق الإعمار الشامل دون تأسيس بنية فكرية متماسكة. فالبناء الفكري هو أحد أهم شروط التنمية المستدامة، وعامل حاسم في استقرار المجتمعات. الأوطان التي تنعم بالاستقرار هي تلك التي تستند إلى فكر وسطي معتدل وخطاب وطني جامع قادر على احتواء التعدد والاختلاف.
ولتأسيس فكر قادر على إنتاج الحلول الواقعية، لا بد من العودة إلى مصادر الفكر الإسلامي: القرآن الكريم، السنة النبوية، والاجتهاد الجماعي، بالإضافة إلى الاستفادة من أدوات العقل والحواس. فالمعرفة الحقيقية تتكوّن من تفاعل النص مع العقل، ومن فهم الإنسان لعالَم الغيب وعالم الشهادة.
إن صياغة أفكار جديدة تعتمد على تنقية المفاهيم من الشوائب الفكرية والسلوكية القديمة، وتأسيس رؤية جديدة قائمة على الشفافية، الكفاءة، ومحاربة المحسوبية والشللية. وهو جهد جماعي يحتاج إلى أجيال من التوعية والتربية على ثقافة الحوار والاحترام المتبادل.
رابعاً: مناقشة الفكر لا الأشخاص
الارتقاء بالمجتمع يتطلب تركيز النقاش على الأفكار لا الأشخاص. فالعقول الكبيرة تناقش الأفكار، والمتوسطة تناقش الأحداث، أما الصغيرة فتنشغل بالأشخاص.
ومن الأمثلة الملهمة في هذا السياق، موقف الخليفة عمر بن الخطاب من قاتل أخيه زيد، حيث التقى بأبي مريم الذي اعترف بقتله، فقال له عمر: “اغرب عن وجهي، فوالله لا أحبك”، فرد عليه الرجل: “وهل يمنعني هذا حقي؟”، فأجابه عمر: “لا، لا يمنعك حقك”.
فقال الرجل: “إذاً لا شأن لي بحبك، فإنما الحب للنساء”، فاحترم عمر منطقه ومنحه حقه دون أن يستغل سلطته للانتقام، في مشهد يجسد العدالة والسمو الأخلاقي في أبهى صوره.
خاتمة
إن الإعمار في جوهره يبدأ من النفس، ومن الفكر، قبل أن يتحول إلى مشاريع عمرانية ومؤسسات ملموسة. ولا يمكن أن يتحقق إعمار حقيقي في غياب إصلاح داخلي يلامس القيم والسلوك والعقل. ومن هنا، فإن إعادة الإعمار يجب أن تُبنى على أسس روحية وفكرية وأخلاقية، تضمن استدامته وفاعليته في بناء إنسان متوازن، ومجتمع متماسك، ووطن مستقر.