د. حسين العالم يكتب الأخوة الموعودة: كيف نردم الهوة بين المثال القرآني والإنسان المعاصر
متابعات-مرآة السودان

الأخوة الموعودة: كيف نردم الهوة بين المثال القرآني والإنسان المعاصر
تقدم النصوص القرآنية رؤية متكاملة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، تقوم على أسس روحية وأخلاقية راسخة. بيد أن الفجوة الشاسعة بين هذا المثال الرباني السامي وتطبيقه في واقعنا المعاصر تطرح تحديات عميقة تستوجب التأمل والمراجعة.
المثال القرآني: صرح أخلاقي متكامل
1. خوة إنسانية كونية:يؤسس القرآن لعلاقة الأخوة على وحدة الأصل الإنساني المطلق: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء:1). هذه الأخوة تتجاوز كل الحدود المصطنعة من قوميات وأعراق وألوان، وهي الأساس الذي ينهار دونه أي سلام.
2. مقياس التفاضل الوحيد: التقوى: جاء التنوع البشري (رجالاً ونساء، قبائل وشعوباً) لغاية سامية هي **التعارف**، وجعل التفاضل الحقيقي معياره التقوى وحدها: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13). وقد عرّفها الإمام علي رضي الله عنه بأنها: *(الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل)*. وأكد عمر بن عبد العزيز رحمه الله جوهرها بقوله: *(ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله)*.
3. العدل المطلق فوق الانحياز: مع اتساع رقعة المجتمع البشري وتشابك مصالحه، تبرز الحاجة الماسة للعدل كأساس لإدارة العلاقات، حتى مع الخصوم والأعداء: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ (المائدة:8). فالعدل هو قمة الأخلاق وأقربها للتقوى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ (المائدة:8).
4. نظام تكافل مؤسسي متجدد: لم يترك الإسلام التكافل لمزاج الفرد، بل أقامه نظاماً إلزامياً (الزكاة) وتطوعياً (الصدقات) يعيد توزيع الثروة ويحقق التضامن المجتمعي، تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ﴾ (المائدة:2).
5. احترام الكرامة الإنسانية: نهى القرآن صراحة عن كل ما يهين الآخر أو يحط من قدره: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ﴾ (الحجرات:11).
الفجوة المؤلمة في الواقع المعاصر:
1. انكماش الأخوة الإنسانية: بينما يؤكد القرآن وحدة الجنس البشري، يشهد العالم صعوداً خطيراً للقوميات المتطرفة والطائفية والعنصرية، حتى داخل المجتمعات المسلمة، مع تجاهل صارخ لمبدأ التفاضل بالتقوى.
2. الدين هوية بلا قيم: تحول الدين في أحيان كثيرة إلى مجرد هوية انتماء فارغة من مضامينه الأخلاقية والاجتماعية، مما عمّق الانقسامات.
3. غياب العدل الشامل: سادت قوانين تمييزية ومحاباة، وفصلٌ بين المبادئ الدينية ومطالب العدالة الاجتماعية، خاصة على المستوى الدولي.
4. هوة اقتصادية شاسعة : تفاقمت الفروق الاقتصادية بشكل مروع بين المجتمعات وبين أفراد المجتمع الواحد.
5. تخلف أخلاقيات الحوار: غابت التربية على “القول الحسن” وحل محلها خطاب الكراهية والتشهير والتنابز بالألقاب.
جذور الأزمة: سوء الفهم القاتل
يعود الخلل الأساسي إلى الفهم الخاطئ لعلاقة الإنسان بأخيه، الذي بدأ مع إبليس حين استنكر الأمر الإلهي بالسجود لآدم مستنداً إلى تفاضل وهمي: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ (ص:76)، متناسياً أن آدم قد نُفخ فيه من روح الله. هذا النموذج من التفاضل الباطل على أساس العرق أو اللون أو الجغرافيا (الأبيض أفضل من الأسود، الأوروبي أفضل من العربي، العربي أفضل من الأفريقي) هو ما أفسد العلاقات الإنسانية عبر التاريخ، وهو ما يحاربه القرآن بالدعوة المتكررة إلى التدبر والتفكر والتفقه للوصول إلى الحق.
آليات المعالجة: استعادة الروح والمؤسسية
1. إحياء روح الأخوة والتقوى:
تفعيل مبدأ “التعارف” القرآني (الحجرات:13) عبر مؤسسات حوارية فاعلة بين الأديان والثقافات، وكسر حواجز الانكفاء الهوياتي.
التركيز على الجوهر الأخلاقي للدين (التقوى) في التربية والدعوة.
2. العدل المؤسسي الشامل:
تجديد أنظمة القضاء على المستوى الوطني لضمان الاستقلال والنزاهة.
إصلاح المؤسسات الدولية (كالأمم المتحدة ومجلس الأمن) لتحقيق العدل بين الشعوب وليس خدمة مصالح القوى الكبرى، ومحاربة “الفقه الانتقائي” الذي يبرر الظلم.
تطبيق مبدأ ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ في كل المجالات.
3. ثورة في التكافل العالمي:
توظيف صناديق المال الدولية بشكل عادل وفعال لتحقيق تنمية مستدامة تشمل كل دول العالم، مستلهمة قيم العدل ووحدة الأصل الإنساني.
تفعيل مفهوم التكافل داخل المجتمعات المسلمة وخارجها.
4. حكمة الدعوة ومركزيتها:
توجيه جهود الدعوة الإسلامية بحكمة نحو المناطق الأكثر حاجة (الوثنية واللادينية)، باستخدام الحوار العلمي والعقلاني الذي يتيحه المناخ الحر في المجتمعات الغربية.
ضرورة أن يكون الدعاة قدوة في التزامهم بقيم الإسلام الأخلاقية والروحية قبل المظاهر الشكلية. فالدعوة إلى تطبيق الشريعة من قبل من لا يلتزمون بجوهرها الأخلاقي (ولو بنسبة 1%) هو “جريٌ على الماء” لا طائل منه.
التأكيد على أن الجهاد في الإسلام هو لرد العدوان والظلم، وليس لإكراه الناس على الدين، تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف:29).
إن سد هذه الهوة بين المثال القرآني الخالد والواقع الإنساني الأليم يتطلب جهداً جماعياً مستمراً، يعيد للإنسانية اعتبارها، ويستلهم الحكمة من الوحي، ويعمل بجد لتحقيق العدل والأخوة التي هي أساس الخلق.